"الزراعة هي خيارنا الأكثر حكمة" هذا ما كتبه توماس جيفرسون إلى جورج واشنطن عام 1787، حيث تبدو كلمات جيفرسون بعد مرور 300 عام أكثر أهمية من أي وقت مضى.
فرغم شح المياه في كثير من بلدان الشرق الأوسط، إلا أن الزراعة تبقى قطاعاً مهماً لما تسهم به في الاقتصاد، حيث نجد اليوم الكثير من بلدان المنطقة تعتمد عليها بدرجة كبيرة.
مصر هي واحدة من هذه البلدان. فكونها مهد إحدى أقدم الحضارات الزراعية على مستوى العالم، نجد أنها لا تزال تعتمد بشكل كبير على الزراعة حتى يومنا هذا. إذ تسهم الزراعة بحسب التقديرات بنسبة 14 في المائة من إجمالي الناتج المحلي وتؤمن وظائف لنحو 31 في المائة من القوى العاملة في مصر. إضافة إلى إسهامها في الاقتصاد، تلعب الزراعة دوراً بارزاً في الأمن الغذائي المصري، والتوظيف والتوزان الإيكولوجي.
ورغم ما ورد آنفاً، نجد أن الزراعة تفقد زخمها على ما يبدو كإحدى أعمدة الاقتصاد في البلد. إذ بقيت مصر خلال السنوات الماضية مستورداً لكميات كبيرة من الأغذية.
ويعتقد الخبراء أن التحديات والتهديدات الجسيمة التي تواجهها مصر تتسبب في إعاقة نمو القطاع الزراعي في البلد. إذ تشتمل هذه التحديات على غياب كفاءة الزراعة وسياسات التنمية الريفية، وكذلك على تدهور الموارد الطبيعية.
أضف إلى ذلك أن القطاع الزراعي في مصر يعتمد بدرجة كبيرة على المزارع الخاصة، التي تقع معظمها في المناطق الريفية من البلد، حيث يسود الفقر وغياب التعليم الجيد. الأمر الذي يؤدي إلى اتباع تقنيات وممارسات زراعية قد أكل الدهر عليها.
أما وضع الزراعة في مصر فيشهد تفاقماً بفعل الزيادة السكانية السريعة، ما يجعل من استدامة هذا القطاع في مصر قضية مُلحة جداً.
صحيح أنه في مصر توجد أصغر قاعدة من الأراضي الصالحة للزراعة للفرد في أفريقيا، إلا أن هذه الأراضي تبقى منتجة على نحو مثير للدهشة. إذ تُزرع جل الأراضي الصالحة للزراعة في مصر مرتين في السنة كحد أدنى. إلا أن هذه الإنتاجية الملحوظة تواجه تحديات ملوحة التربة في كثير من بقاع البلد.
ولعل ملوحة التربة، التي تؤثر بنحو 35 في المائة من الأراضي المزروعة في مصر، تشكل إحدى العقبات المتواصلة التي تعترض التنمية الزراعية، ما يمثل مشكلة تتفاقم يوماً تلو الآخر بفعل تغير المناخ.
فتغير المناخ في منطقة المتوسط يقود إلى تغييرات في أنماط الهطولات، ناهيك عن ارتفاع معدلات درجات الحرارة، ما يشكل ظروفاً تساعد على تكثيف تراكم الملح في التربة.
في عام 2010، عمل المركز الدولي للزراعة الملحية (إكبا) على مضافرة جهوده مع جهود السلطات الزراعية المحلية، الممثلة بمركز بحوث الصحراء ووزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، وذلك في مسعى طموح لإدخال نهج جديد يمكن من التكيف مع تأثيرات تغير المناخ على نحو مستدام.
وقد تمخض هذا التعاون عن سلسلة من الجهود المشتركة الرامية إلى تناول قضايا ملوحة التربة وتأثيرات تغير المناخ، حيث تم استكمال مشروعين كبيرين كجانب من جوانب هذا التعاون.
فقد استمر المشروع الأول الذي نفذ تحت عنوان "التكيف مع تغير المناخ في البيئات الهامشية لغرب آسيا وشمال أفريقيا" من فبراير/شباط 2010 وحتى يونيو/حزيران 2015 في مصر، وكذلك في الأردن وعمان وفلسطين وسورية وتونس واليمن. ووضع المشروع عدداً من الأهداف المليئة بالتحديات، وبخاصة تحسين القدرة على التأقلم مع تغير المناخ، وتحسين إنتاجية الأراضي، وكذلك تحسين مستوى المعيشة لدى فقراء المزارعين الذين يعتمدون على موارد هامشية من مياه وأراض في منطقة غربي آسيا وشمال أفريقيا، ونشر حزم إنتاج محاصيل علفية وغذائية عالية الغلة.
يقول الدكتور خليل عمار، خبير أول في الهيدرولوجيا/الجيولوجيا المائية لدى إكبا: "جرت غربلة وتقييم قرابة 8,000 مدخل لأكثر من 20 نوعاً علفياً وذلك لتحديد الطرز الوراثية التي تتسم بمستوى تحمل أفضل للإجهاد وإنتاجية أعلى ضمن الظروف الهامشية، وتم إدخال أنواع لمحاصيل عالية القيمة كالعصفر والكينوا لصالح النظم الزراعية في بلدان عديدة حيث نجحت في قدرتها على التكيف ولاقت طلباً جيداً من المزارعين المحليين."
ومن إحدى إنجازات المشروع إصلاح نظم الصرف الزراعي في المنطقة التي استهدفها المشروع، فضلاً عن امداد المزارعين المحليين بكمية وفيرة من أعلاف الحيوانات. وتم كذلك تدريب المزارعين على حفظ هذه الأعلاف كسيلاج – علف مخزن ومتخمر عالي الرطوبة، حيث يعد السيلاج عملياً خلال الفترات التي تندر فيها الأعلاف.
ومن الإنجازات الأخرى كان تدريب المزارعين على زيادة استخدام المخلفات الزراعية الجافة وتأسيس مركز لإنتاج مشتقات الألبان وفحصها وكذلك إشراك النساء بدرجة أكبر في المجتمعات المحلية.
وفي متابعة لهذه الجزئية، صُمم المشروع الثاني لصالح مصر بصفة خاصة، وحمل اسم "نموذج إنتاج البذور الخاصة بأنواع محاصيل قابلة للتكيف ومتحملة للملوحة لصالح الزراعة الذكية مناخياً في مصر" حيث امتد المشروع لفترة ثلاث سنوات. واستهدف المشروع الأراضي التي لم تكن صالحة للزراعة مسبقاً في منطقة السويس: بني سويف والوادي والجديد، حيث تشكل هذه المناطق الثلاث نحو 50 في المائة من إجمالي مساحة الأراضي في مصر.
وقد أدت العوامل التي تواصلت لسنوات من شح المياه وارتفاع ملوحة التربة وكذلك ضعف ممارسات إدارة التربة إلى تحويل كثير من هذه الأراضي إلى أراض جرداء.
بدأ المشروع في مارس/آذار 2015، وهدف إلى تحسين المستوى المعيشي للمزارعين من خلال إدخال وتعديل ونشر محاصيل تتسم بقدرتها على التأقلم مع المناخ وإنتاج البذور محلياً على المستوى المجتمعي.
كما هدف المشروع كذلك إلى بناء القدرات وتحسين المهارات الفنية لدى المهندسين الزراعيين، فضلاً عن تمكين المرأة الريفية من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية في مصر.
وقد تمكن المشروع، الذي بدأ مع 200 مزارع خلال عامه الأول، من الوصول إلى 1,400 مزارع عند اختتامه، مغطياً بذلك نحو 2,000 حقل تجريبي.
كما نجح المشروع في تأسيس وحدة لتنقية البذور في محافظة الوادي الجديد، بسعة 10 طن في اليوم. ناهيك عن إنتاجه لكمية 25 طن من البذور المتحملة للملوحة. كذلك تم خلال المشروع تركيب وحدة الآلات الزراعية في الوادي الجديد.
إلى جانب ذلك، وزع المشروع نحو 12 طناً من بذور المحاصيل الشتوية، حيث اشتملت هذه المحاصيل على القمح والشعير والكينوا والتريتيكال (قمشيلم)، المحصول الهجين بين القمح والشيلم. أما بالنسبة للمحاصيل الصيفية، فقد وزع المشروع نحو أربعة أطنان من بذور الدخن والذرة الرفيعة.
ومن أبرز الإنجازات الأخرى للمشروع كان تطوير نظم الري في المناطق المستهدفة، فضلاً عن توزيع كمية 25 طناً من السماد العضوي (الكمبوست) لتحسين خصائص التربة.
نفذ المشروع ما مجموعه تسع ورشات عمل وبرامج تدريبية ميدانية كإحدى أهداف المشروع الرامية إلى رفع مستوى التوعية لدى المزارعين بالممارسات الفضلى عن طريق استخدام المياه المالحة والمياه العادمة المعالجة في مزارعهم، فضلاً عن تعزيز القدرة على التكيف مع تغير المناخ في المجتمعات الفقيرة التي تعيش في مناطق هامشية.
يقول عبد الراضي، مزارع محلي من السويس: "كانت مزارعنا على درجة مرتفعة من الملوحة، ما جعلها تخفق في إنتاج أي من المحاصيل. لكن هذا الأمر تغير بعد أن قدم لنا فريق الأبحاث بذوراً لمحاصيل تتسم بقدرتها على التأقلم وتحملها للملوحة. كما بدأ الفريق أيضاً بتدريبنا على الممارسات والتقنيات المناسبة."
ويضيف: "عمل المشروع على إدخال الكينوا إلى السويس لأول مرة، حيث دُهشنا لمستوى غلتها الجيد جداً."
أما نادي، مزارع آخر من السويس، فيضيف: "قام فريق الأبحاث بتحليل تربتنا، ومن ثم قدم لنا بذور الكينوا والشعير والقمح. من بعد ذلك، نفذ الفريق العديد من الفعاليات التدريبية. لقد أعطت البذور غلالاً مرتفعة على نحو غير مسبوق في مزارعنا."
وشرح قائلاً: "لقد ساعدنا فريق الأبحاث أيضاً بشكل كبير على تسويق منتج الكينوا، إذا كانت معرفتنا بطرق تسويقه محدودة نظراً لحداثة عهدنا بالمحصول."
ويشير نادي: "لقد غير المشروع حياتي بشكل جذري. فاعتماد هذه الأساليب كان مربحاً بالنسبة لمزارع مثلي."
ويذكر أن هذين المشروعين غطيا مساحة تزيد عن 3,780 هكتاراً في مصر.
ومنذ استكمال المشروعين، شرع إكبا بعديد من المبادرات الجديدة. إذ تركز هذه المبادرات على استخدام الزراعة القائمة على البحر في منطقة ساحل البحر الأحمر، واختبار وإدخال المزيد من المحاصيل المتحملة للملوحة إلى المناطق التي تكون الحاجة فيها إلى تلك المحاصيل على أشدها.