عند أعلى التل، وقف الدكتور مافلون بولودوف ينظر إلى أحد الحقول المترامية الأطراف عند السفح. مشهد يأخذ بالألباب، تغنيه الجبال الطاجيكية وبساط هائل المساحة اكتسى بلون برتقالي من بقايا محصول القمح، وإلى جانبه قطعة أرض تنتصب فيها سوق الكنيوا الطويلة كحراس للمشهد.
فعام 2018 يمثل نهاية لمساعي الدكتور بولودوف التي دامت لفترة 33 عاماً في ميدان الكينوا، ذلك المحصول السحري المستقدم من الأنديز. إلا أن مشوار المحصول في طاجيكستان كان قد بدأ للتو. فبعد سنوات من التجارب، استطاع أحد المزارعين في جنوب طاجيكستان جمع كمية 600 كغ من بذور الكينوا لأول مرة.
لا يمكن للدكتور بولودوف، المدير المتقاعد لدى المركز الوطني للموارد الوراثية في الأكاديمية الطاجيكية للعلوم الزراعية، إخفاء ارتياحه، فغلة البذور كافية لتغطية مساحة 100 هكتار من الأراضي خلال العام القادم.
صحيح أن محصول الكينوا قد أدخل رسمياً إلى طاجيكستان عام 2013، إلا أن الدكتور بولودوف كان قد تعرف على المحصول لأول مرة عام 1985 عندما كان باحثاً مفعماً بالحماس لدى قسم تربية النبات وإنتاج بذور المحاصيل الحبية والعلفية. فقد سلمه السيد بيترو لوسينتشي، الذي كان في تلك الفترة الأمين العام الثاني للجنة المركزية للحزب الشيوعي الطاجيكي، كيساً يحتوي على بذور أحضرها من بوليفيا، قائلاً: "يصنعون الخبز من هذه البذور، علينا التوقف عن التركيز على القمح ومحاولة خيارات أخرى."
ظهرت البذور في اليوم الخامس بعد زراعتها، إلا أنها توقفت عن التطور بعد أسبوعين. كما لم يجدي ري البادرات كل يوم أي نفع. لكن بعد شهر، استأنف الإنبات، ليشابه بذلك نبتة السرمق، المعروفة محلياً باسم shurak، وهو صنف عشب محلي يختلف بشكل طفيف عن الكينوا من حيث التفرع وتشكل رؤوس أزهاره. واضح أن هذا الرجل لم يعرف الفرق بين المحصول المستأنس والعشب البري. وعندما صارت الساق بطول الإنسان، فقد صبره وخاب ظنه، ليقترح قطعها بهدف الاستفادة من كتلتها الخضراء، مشدداً على "أنه محصول علفي جيد." جزّ المحصول دون جني أية بذرة لصالح التجارب المستقبلية.
في عام 1991 إنهار الاتحاد السوفييتي، ونالت طاجيكستان استقلالها. وفي عام 1996، انتخب السيد بيترو لوسينتشي الرئيس الثاني لمولدوفا. إلا أن الدكتور بولودوف نادم على قراره بعدم الاحتفاظ بما تبقى من بذور الكينوا، مواصلاً بذلك بحثه عن معلومات ولو طفيفة حول هذا المحصول المستقدم من الأنديز.
وخلال الفترة 1992-1997 اندلعت حرب أهلية أسفرت عن تأثيرات مدمرة طالت الأمن الغذائي. تأثيرات فاقمها التغير المناخي في طاجيكستان خلال العقد الأول من الألفية الثالثة. فعقب ثلاث سنوات من تراجع الحصاد، ضربت طاجيكستان موجة جفاف قاسية أثرت على آلاف الريفيين، لاسيما في الجنوب. لا شك أن محصول الكينوا المتحمل للحرارة والجفاف كان من شأنه المساعدة على مواجهة الجفاف خلال تلك السنوات العجاف.
ومع ظهور إمكانية الدخول إلى الشبكة العنكبوتية، بدأ الدكتور بولودوف بالتعرف أكثر على المحصول. أما أبحاثه فاتسمت بصبغة عملية عندما أطلقت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة في طاجيكستان مشروع الكينوا وقامت بتسليم بذور سبعة أصناف إلى شركاء وطنيين لإجراء تجارب حقلية عليها.
وفي عام 2015، انضم المركز الدولي للزراعة الملحية (إكبا) إلى مسيرة العمل على الكينوا بتمويل مالي من البنك الإسلامي للتنمية (IsDB)، فقدم إكبا إلى العلماء والمزارعين في طاجيكستان بذوراً لخمسة أصناف كينوا مقاومة للملوحة والجفاف من البنك الوراثي لإكبا.
وعلى ما يبدو أن التاريخ يعيد نفسه. ففي بادئ الأمر ظهر فضول المزارعين، تبعه زراعة بذور المحصول، أعقبها خيبة أمل بالإنبات والدعوة لري البادرات. إلا أنه كان على الدكتور بولودوف التحلي بالصبر في إقناع المزارعين بعدم حاجة المحصول للري في هذه الفترة.
أنبتت بذور الكينوا خلال خمسة أيام بعد زراعتها في الظروف البعلية السائدة في طاجيكستان. وعند وصول طولها إلى 15 سم تبدأ عملية النمو بالتباطؤ لمدة شهر، لتعاود النمو ثانية بمعدل 3-5 سم في اليوم إلى أن تصل بطولها إلى 1.5-2 متر. وخلافاً للذرة وغيره من المحاصيل، يستمر طور إزهار الكينوا لفترة تتراوح من 35-40 يوماً. وعلى صعيد إنتاج الأعلاف، يمكن حصاد حتى 300 كغ في الهكتار من الكتلة الخضراء خلال مرحلة الإزهار. أما غلة الأصناف التي تتسم بالنضج المبكر فقد تصل حتى 1.2 طن في الهكتار.
وانطلاقاً من موقعه كخبير في محصول الكينوا، يقدم الدكتور بولودوف النصح للمزارعين والمنظمات الدولية العاملة في طاجيكستان. ففي أبريل/نيسان 2018، تواصل ممثلون عن وكالة كاريتاس (Caritas) السويسرية - وهي وكالة إغاثية دولية تعمل في ميدان الأمن الغذائي والمياه والتغير المناخي – مع الدكتور بولودوف للحصول على بذور كينوا وطلبوا منه المساعدة لزراعتها في جنوب طاجيكستان.
ونظراً لصغر حجم البذور، عمل الدكتور بولودوف على خلطها بالرمل وزراعتها يدوياً في مساحة هكتار واحد من الأرض خلال أواخر أبريل/نيسان 2018. وفي حقل ممتد على مساحة أكبر، أثبت الكينوا مرة أخرى جدواه الاقتصادي مع تكلفة متدنية لصونه، إذ أنفق المزارع نحو 140 دولاراً أمريكياً شملت حراثة الأرض وإضافة الأسمدة المعدنية وحصاد المحصول ونقل الغلال من الحقل. اشترت وكالة كاريتاس الحصاد ليتم توزيعه في منطقة خاتلون الواقعة جنوبي البلاد خلال الموسم التالي.
وكشخص مناصر لزراعة الكينوا في البلاد، لا ينفك الدكتور بولودوف عن تكرار طرح السؤال عينه خلال الاجتماعات المزارعين المحليين: "كم منكم يستهلك البطاطا والطماطم كل يوم؟"
فخلال فترة لا تزيد على مئة عام، لم يكن هذان المحصولان، اللذان يعودا بمنشئهما إلى أمريكا اللاتينية، جزءاً من الوجبة الغذائية الطاجيكية. ليستطرد قائلاً: "اليوم بات المحصولان غذاءً أساسياً على مائدتنا." ومع ارتفاع درجات الحرارة وتراجع غلال القمح، نجد أن الكينوا الذكية مناخياً تحمل فرصاً كبيرة لتغيير الأغذية المفضلة في طاجيكستان. لكن الدكتور بولودوف لن يستسلم هذه المرة.