لا شك أن ضمان الأمن الغذائي في أفريقيا جنوب الصحراء ليس بالمهمة السهلة. ولعل الأصعب من ذلك تحقيق هدف التنمية المستدامة المرتبط بالقضاء على الجوع. فالمنطقة تعاني من ظروف زراعية متردية، ما يتسبب – من جملة من أمور أخرى - في انتشار سوء التغذية وتفشي الفقر.
تعتمد جلّ المزارع المروية في المنطقة على استخراج المياه الجوفية أو على نظم الضخ من الأنهار الجارية. إلا أن التراجع المستمر في الهطولات قد أثر على توافر المياه المخصصة للري كمّاً ونوعاً، الأمر الذي يتسبب في تفاقم اضطراب الأسواق المحلية للأغذية ورفع معدل سوء التغذية في المناطق التي ضربها الفقر. ويشكل نقل المياه من الجداول الرئيسية إلى الحقول جحر عثرة أمام المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة. إلا أن نظم الري والتقانات التي تتسم بتكلفتها المتدنية وكفاءتها الكبيرة قادرة على مساعدة المزارعين في عملية ري أراضيهم وتحسين غلال المحاصيل وزيادة الدخل. أضف إلى ذلك أن التقانات المتطورة للري على نطاق صغير والمخصصة لمحاصيل البستنة (كالخضروات) قد تساعد على الحدّ من المخاطر وتحسين الإنتاجية الزراعية والدخل.
ولمواجهة هذه المشكلات، ضم المركز الدولي للزراعة الملحية (إكبا) جهوده إلى جهود عديد من الشركاء الوطنيين، ومنهم المؤسسات الوطنية للبحوث الزراعية في سبعة بلدان ضمن إقليم أفريقيا جنوب الصحراء، من قبيل بوركينا فاسو وغامبيا ومالي وموريتانيا والنيجر وكذلك نيجيريا والسنغال، لإطلاق مشروع عام 2012 أطلق عليه اسم "تحسين نظم إنتاج المحاصيل والبذور الخاضعة لإدارة المياه والري في أفريقيا جنوب الصحراء".
وتمثل الهدف من المشروع الذي يحظى بتمويل البنك الإسلامي للتنمية (IDB) في تطوير قاعدة بيانات خاصة بالموارد المائية في غرب أفريقيا؛ وتحديد التقانات المناسبة لمجتمعات أفريقيا جنوب الصحراء اعتماداً على توافر المياه وجودة المياه وملاءمة الأراضي والمحاصيل، وكذلك تحسين إنتاج المحاصيل والبذور، والظروف الاقتصادية والاجتماعية؛ وتحديد حزم المحاصيل المنوعة ضمن ظروف مختلفة من نوعية المياه وتحفيز الاستخدامات المتعددة للمياه؛ فضلاً عن تحسين القدرات البحثية وخدمات الإرشاد الزراعي، وكذلك رفع مستوى المهارات لدى المزارعين في الريف ضمن مجال إدارة المياه والمحاصيل.
وتكلل المشروع بالنجاح من حيث مساعدته للمزارعين على تبني تقانات ري صغيرة النطاق ونظم إنتاج مستدام للمحاصيل والبذور لزيادة إنتاجية المزرعة وإنتاج المحاصيل الزراعية على مدار العام.
وكمتابعة للمشروع، أجرى مؤخراً الدكتور أسد سروار قرشي، خبير أول لدى إكبا مختص في إدارة المياه والري، تحليلاً للمعوقات الأخرى التي تواجه المزارعين على مستوى الري. ووجد أن المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة في أفريقيا جنوب الصحراء يواجهون على الدوام انقطاعات عند استخدامهم لنظم الري التي تعمل على الديزل، وهو وقود باهظ الثمن لا يملك الكثير من المزارعين سبيلاً لتغطية تكاليفه، أو انقطاع الكهرباء، التي لا تتوافر في كثير من بقاع الإقليم. وأدرك أنه من الضرورة بمكان استكشاف امكانيات النظم العاملة بالطاقة الشمسية لتوسيع نطاق الري إلى قرى ريفية بطريقة مستدامة. وإضافة إلى تغذية مضخات الري بالطاقة، يمكن أن توفر أجهزة الطاقة الشمسية الامداد بالكهرباء للاستخدام المنزلي.
وتواجه المنطقة نقصاً حاداً في الكهرباء، لاسيما في المناطق الريفية التي يقطنها قرابة 80 في المائة من السكان، ويعتمد 70 في المائة منهم على إنتاج الأغذية سواء من الزراعة أو من تربية الماشية. ويظهر تقرير البنك الدولي أن قرابة 24 في المائة من سكان أفريقيا جنوب الصحراء تتوافر لديهم الكهرباء قياساً بنسبة 40 في المائة في غيرها من البلدان المتدنية الدخل.
ولمعالجة هذه المشكلة، أقام إكبا شراكة مع صندوق أوبك للتنمية الدولية (OFID) لتنفيذ مشروع عرف باسم "توسيع تقانات الري محدودة النطاق لتحسين الأمن الغذائي في أفريقيا جنوب الصحراء".
وعُرض في هذا المشروع، الذي أبصر النور في يناير/كانون الثاني 2017، نظام ري متدني التكلفة يُعرف باسم نظام كاليفورنيا للري أمام مجموعة من المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة في مالي وبوركينا فاسو لزراعة محاصيل الخضروات. واستطاع هذا النظام توفير قرابة 40 في المائة من مياه الري قياساً بنظم الري السطحي التقليدية. والأكثر أهمية من ذلك أنه يعمل بالطاقة الشمسية. وتم تركيب النظام في بادئ الأمر فوق مساحة 2,500 متر مربع. وفي مالي، يخضع موقع تجربة نظام الري لإدارة مشتركة من قبل جماعة من 100 مزارع من أصحاب الحيازات الصغيرة (77 امرأة و23 رجلاً). وخصص لكل مزارع في هذه المنطقة حقلاً صغيراً وجدولاً لاستخدام المياه من خلال نظام الري. وفي الموسم الزراعي الأول، قُدم للمزارعين أدوات زراعية بأنماط مختلفة منها عربات اليد والقشاشات والأنابيب والمرشات، وكذلك قُدمت لهم مستلزمات زراعية من قبيل الأسمدة والبذور. ولدى رؤيتهم لمنافع النظام الجديد، أبدى مزارعون آخرون في القرى المجاورة اهتماماً بهذا النظام، وعرضوا إدخاله إلى سائر القرى.
والأمر سيان بالنسبة لبوركينا فاسو، حيث تم تركيب النظام في منطقة ياكو وتم التشارك فيه بين جماعة من خمسة مزارعين. إذ يقوم هذا النظام باستخراج المياه الجوفية المخصصة للري من بئر ضحلة. وخلال الموسم الزراعي الأول، قرر المزارعون زراعة محاصيل خضروات كالبصل والباذنجان والطماطم والفليفلة الحلوة. وفي الموسم التالي (الذي يبدأ في أبريل/نيسان 2018)، يخطط إكبا إلى إدخال مزيد من المحاصيل إلى المنطقة، بما في ذلك بعض المحاصيل المتحملة للملوحة.
إن هذه النظم مبشرة للغاية، فمن شأنها تحسين مصادر المعيشة لدى المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة في المنطقة. إلا أن اعتمادها يبقى مفتاح النجاح. وليس تنامي الاهتمام بين المزارعين في المشروع المذكور سوى مؤشر جدّ إيجابي في هذا الاتجاه.