بات العالم اليوم على ما يبدو مستعداً لمواجهة مستقبل بعيد عن الاستدامة في ظل التغير المناخي والنمو السكاني، وغيرها من التحديات القابعة أمام العالم. فاليوم بات انعدام الأمن الغذائي وندرة المياه حقيقة واقعة لمئات الملايين من السكان، لاسيما في البلدان النامية. فتبعاً لتنبؤات هيئات الأمم المتحدة، ستزداد المخاطر التي تعصف بالأمن الغذائي حدة لاسيما لدى الشريحة الأكثر معاناة. وهذا ينطبق بصفة خاصة على مناطق كالشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء. أما ضريبة عدم اتخاذ الإجراء المناسب حيال ذلك فباهظة جداً. ولعل المجتمع الدولي، مدفوعاً بتخوفه حيال نقص الأغذية مستقبلاً على المستوى العالمي والتواتر الأكبر للكوارث الطبيعية نتيجة التغير المناخي، قد وضع لنفسه عام ۲۰۱۵ قائمة من الأهداف العالمية حتى عام ۲۰۳۰، والتي تعرف باسم أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، لمواجهة مختلف التهديدات العالمية. إذ أمست هذه الأهداف خارطة طريق للجهود الدولية والإقليمية والوطنية للتعامل مع التغير المناخي وانعدام الأمن الغذائي وغيرها من المشكلات ذات الصلة.
وشأنه شأن كثير من المنظمات الدولية للبحوث والتنمية، سعى المركز الدولي للزراعة الملحية (إكبا) إلى ضبط عمله بما يتوافق وأهداف التنمية المستدامة التي تقع ضمن مسؤوليته عقب إقرار خطة التنمية المستدامة لعام ۲۰۳۰. ففي واقع الأمر يسهم إكبا منذ قرابة عقدين من الزمن في دور ريادي على مستوى الجهود البحثية والتنموية في بقاع العالم التي تواجه مخاطر واسعة النطاق لتحقيق الأمن الغذائي والمائي فيها.
ويشكل إكبا، الذي أسس في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة عام ۱۹۹۹، واحداً من المنظمات القلائل التي تنفرد في التركيز على مواجهة المشكلات الزراعية والبيئية التي تعصف بالمناطق المتأثرة بالملوحة والجفاف وندرة المياه، وبغيرها من المشكلات. إذ يعمل المركز على تحسين الإنتاجية الزراعية وتحفيز الزراعة المستدامة للتأقلم مع تحديات ندرة الأغذية التي تواجه بعض البلدان الأكثر تأثراً. فهو يقوم بذلك من خلال إدخال تقانات ومحاصيل مبتكرة تتسم بكفاءة استخدام الموارد وذكية مناخياً إلى مناطق تكون فيها التقانات والمحاصيل الأخرى غير ذات فعالية. لكن، وفوق ذلك كله، يركز المركز من خلال جهود جبارة على البحوث والتنمية وتنمية القدرات لدى شتى أصحاب الشأن لاسيما الشباب منهم.
البحوث والتنمية لتحقيق الأمن الغذائي والمائي
ينعكس الإيمان الراسخ لإكبا بالبحوث والتنمية في برامجه واستراتيجياته التي ينفذها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وكذلك في آسيا الوسطى والقوقاز وأفريقيا جنوب الصحراء. فقد اتسعت رقعة مسؤولية المركز بشكل ملحوظ لتغطي بيئات هامشية منذ أن تولت الدكتورة أسمهان الوافي منصب المدير العام لإكبا عام ۲۰۱۲. فوفقاً لاستراتيجية المركز للفترة ۲۰۱۳-۲۰۲۳، أضحى تركيز المركز ينصب على إدارة الموارد الطبيعية وتأثيرات التغير المناخي وإدارته، فضلاً عن تركيزه على تنويع المحاصيل والتحسين الوراثي والزراعة المائية والطاقة الحيوية، وكذلك على سياسات تحقيق التكيف في البيئات الهامشية.
إلى جانب ذلك، عمل المركز على نطاق واسع ولسنوات عديدة على إيجاد حلول بديلة وغير تقليدية تتسم بتكيفها مع شتى الظروف الهامشية. فعلى سبيل المثال، نفذ المركز منذ عام ۲۰۰۷ مبادرة رئيسية لإدخال زراعة الكينوا وتعريف المزارعين بها في مناطق مختلفة. وقد نفذ المركز حتى الآن أنشطة ذات صلة بالكينوا في عديد من بلدان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. إذ نجد أصناف الكينوا الأربعة التي أنتجها إكبا مناسبة للظروف القاحلة والمالحة بدرجة كبيرة حيث تصل كمية إنتاج البذور في الهكتارإلى قرابة خمسة أطنان. وفي المغرب، أقام إكبا شراكة مع باحثين محليين لدراسة زراعة الكينوا في المناطق الجنوبية التي تؤدي الملوحة فيها إلى إعاقة الإنتاج الزراعي. وأظهر الباحثون امكانية جني قرابة أربعة أطنان من الكينوا في الهكتار عند مستوى ملوحة مياه يبلغ ۱۲ ديسيسيمنز/ متر.
كما يدرس العلماء في إكبا كيفية استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة والمياه المالحة ومياه البحر لصالح الإنتاج الزراعي ونباتات الزينة. فقد أثبتت مياه الصرف الصحي المعالجة أنها ملائمة لري عديد من محاصيل الخضروات في الشرق الأوسط. وهذه الأبحاث تحمل أهمية خاصة لدى البلدان التي تعاني من ندرة المياه والتي تشكل الزراعة فيها العمود الفقري للاقتصاد في حين يشهد فيها احتياطي المياه العذبة تراجعاً.
تنمية القدرات لدى جيل الشباب
تتقاطع تنمية القدرات مع كافة مبادرات إكبا على صعيدي البحوث والتنمية. إذ يخصص المركز موارد هائلة لنشر المعرفة وتنمية القدرات لدى شتى المعنيين، لاسيما المزارعات والباحثات والشابات.
فعلى سبيل المثال، أطلق إكبا مبادرة رئيسية عام ۲۰۱٦ لتمكين الباحثات الشابات في العالم العربي. فبالشراكة مع مؤسسة بيل ومليندا غيتس والبنك الإسلامي للتنمية، قام المركز بتصميم وقيادة برنامج زمالة جديد يعرف باسم "تمكين" لمساعدة الباحثات العربيات الشابات على إظهار إمكانياتهن على صعيدي القيادة والبحوث.
وكجانب من هذا العمل، نظم المركز دورة تدريبية محورية بالتعاون مع برنامج النساء الأفريقيات العاملات في مجال البحوث والتنمية الزراعية حيث شارك في الدورة العديد من الباحثات من الجزائر مصر والأردن ولبنان والمغرب وعمان وفلسطين.
فمن خلال "تمكين"، سيكون بمقدور الباحثات العربيات الشابات إكمال برامج زمالات لمدة سنة وتحسين مهاراتهن البحثية والقيادية. ويستقطب هذا البرنامج مع انطلاقته الزميلات الباحثات من الجزائر ومصر والأردن ولبنان والمغرب وعمان وكذلك من فلسطين وتونس والإمارات العربية المتحدة.
إلى جانب ذلك، يفتح إكبا باب الفرص أمام طلاب الجامعة والدراسات العليا حول العالم لاكتساب الخبرة العملية . فخلال السنوات السابقة، وفر المركز برامج تدريب داخلي لعدد كبير من الطلاب من بلدان كالصين والهند والمغرب والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من البلدان. فكل عام يختار إكبا حتى ۱۰ طلاب من خلال برنامجه الخاص بالتدريب الداخلي، حيث يقدم للمتدربين فرصة العمل مع خبراء ذائعي الصيت على المستوى العالمي فضلاً عن الممارسة العملية في حقول التجارب وداخل أحدث المختبرات. كما يجري المتدربون دراسات وبرامج حول طيف واسع من المواضيع، بما في ذلك مشاريع إدارة المياه والأراضي، وتنويع المحاصيل والموارد الوراثية، وكذلك نمذجة التغير المناخي والتكيف معه. إلى جانب ذلك، تفتح الفرصة أمام أولئك المتدربين لنشر أوراقهم العلمية حيث أن إجراء أبحاث ميدانية ومخبرية يشكل مطلباً أساسياً لنشر الأوراق في مجلات محكمة واستكمال الأطروحات.
ففي عام ۲۰۱۷ على سبيل المثال أجرت العديد من الطالبات من فرنسا والمغرب وصربيا والإمارات العربية المتحدة زيارة إلى إكبا لتنفيذ مشاريع حول الكينوا والبيوت المحمية. إذ أجرت طالبة الماجستير كاريل باسول لدى كلية التنمية الزراعية الدولية (ISTOM) بفرنسا دراسة لتحسين إنبات الكينوا والشتلات. كما تلقت إيمان المجيدي، طالبة من المغرب، الدعم والتوجيه من خبراء إكبا بخصوص مشروعها الاجتماعي الذي يشتمل على الكينوا لتمكين المرأة في منطقة مراكش. كذلك أجرت طالبة الماجستير ياسمينة كوستيتش، طالبة الماجيستير في جامعة بلغراد في صربيا مشروعاً حول كفاءة استخدام المياه والطاقة في الخضروات، بينما أجرت حمدة المعصوم، الطالبة الجامعية لدى جامعة زايد بالإمارات العربية المتحدة تحليلاً مقارناً لإنتاج المحاصيل ضمن ظروف البيت المحمي والبيت المحمي الشبكي.
ولعل خوض غمار هذه التجربة يحسن من فرص إيجاد طلاب الجامعة والدراسات العليا للوظائف وتقديم إسهامات إيجابية تفيد بلدانهم. كما يلتزم إكبا بمواصلة تمكين الشباب كي يصبحوا علماء ناجحين وأصحاب مشاريع وقادة.
ويهدف إكبا من خلال برامجه البحثية وبرامج بناء القدرات إلى زيادة الإنتاجية الزراعية وضمان الاستدامة البيئية طويلة الأجل وتحسين فرص الدخل لدى المجتمعات السريعة التأثر في شتى بقاع العالم.