غدا نبات الكينوا في السنوات الأخيرة- والذي كان يعتبر الغذاء الأساسي فقط لسكان الأنديز الأصليين - طعاماً مفضلاً لعشاق الطعام حول العالم حيث بلغت شعبيته أن بعض سلاسل مطاعم الوجبات السريعة أضافته إلى قائمة أطباقها ووجباتها. فمحتواه الغذائي الاستثنائي جعلت منه أحد أكثر الحبوب فائدة وضمن صفوف العروض الراقية. فالكينوا ذو قيمة غذائية مرتفعة كما أنه خالي من الجلوتين وغني بالأحماض والفيتامينات الأساسية.
ويعود الفضل في اكتساب الكينوا مؤخراً لهذه الشهرة الواسعة إلى حملات الاعلانات والتسويق العالمية والتي تضمنت إعلان العام ۲۰۱۳ عام الكينوا. وقد شهد الطلب على الكينوا انتشاراً واسعا تجاوز امريكا الجنوبية. وفي حين تبقى البيرو وبوليفيا المنتجين الأساسين للكينوا، تهافت العديد من الشركات والمزارع حول العالم على الدخول في ميدان إنتاجه حيث وصل الإنتاج العالمي للكينوا إلى ۲۲۸۸۷۰ طن في العام ۲۰۱۵ بعد أن كان ۷٤۳۵۳ طن في العام ۲۰۰۹ وذلك وفقاً لبوابة ستاتيستا الالكترونية للاحصاءات وبحوث السوق والأعمال.
ولايعزى استقطاب الكينوا للعديد من محبيها على المستوى العالمي لقيمتها الغذائية المرتفعة فحسب، بل تمتلك الكينوا تنوعاً وراثياً فريداُ ناهيك عن مرونتها وتأقلمها مع ظروف البيئات القاسية. فيمكن زراعة الكينوا في التربة الملحية الفقيرة وفي بيئات تحظى بهطولات مطرية سنوية لاتتجاوز ۲۰۰ مم. وبناء عليه، يتوافد المزيد والمزيد من المزارعين من الشرق الأوسط إلى آسيا الوسطى ومنها إلى جنوبها.
وفي الوقت الذي يتواصل فيه عجز المحاصيل الأساسية مثل القمح والأرز والذرة عن تحمل ملوحة التربة والمياه، وكذلك درجات الحرارة المرتفعة والجفاف، تبرز الكينوا كبديل ممتاز في المناطق التي تفرض فيها هذه المشاكل مخاطر متزايدة على الزراعة والأمن الغذائي.
وتمثل الكينوا سلاحاً لمواجهة مشاكل الجوع وسوء التغذية والفقر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فضلاً عن أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا وآسيا الوسطى.
ويقدر المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية -وهو مركز بحثي- أن كل البلدان تواجه تحديًا خطيراُ على مستوى الصحة العامة يرجع لسوء التغذية. ففي بلدان مثل الهند، يعاني مايفوق ۱۹۰ مليون شخص من نقص النغذية وذلك بحسب خريطة الجوع التي وضعتها منظمة الزراعة والأغذية التابعة للأمم المتحدة (الفاو) للعام ۲۰۱۵. وتحتل الهند المرتبة ۱۷۰ ضمن ۱۸۵ بلداً (الحدث: ٤۸.۱%) من حيث انتشار فقر الدم بين النساء في سن الإنجاب.
ويؤمن الخبراء بأن إدخال حبوب مثل الكينوا إلى الزراعة وإضافتها إلى قائمة الحبوب المحلية المغذية من شأنه أن يحد من سوء التغذية. وكما يفيد البروفيسور م. س. سواميناثان، أول حائز على جائزة الغذاء العالمية ومؤسس الثورة الخضراء، يمكن زراعة الكينوا في الهند كحبوب إضافية وإن لم تكن بديلاً عن الشعير المستخدم على نطاق واسع في البلد.
وعلى الرغم مما تحمله زراعة الكينوا خارج حدود الأنديز من مؤشرات إيجابية مستقبلية، لاتزال هناك العديد من المعوقات التي يعتقد الخبراء بوجوب دراستها قبل المباشرة بزراعة الكينوا في المناطق ذات الظروف الهامشية.
وفي هذا الإطار، عقد المركز الدولي للزراعة الملحية (إكبا) بالتعاون مع منظمات أخرى أحد أكبر المؤتمرات حول الكينوا في دبي، دولة الإمارات العربية المتحدة والذي حضره مايربو على ۱۵۰ مندوباً للبحث في الخطوات المستقبلية الواجب اتخاذها لجعل نبات الكينوا بديلاً متاحاً في البيئات الهامشية. كما تمخض عن المؤتمر جملة أمور من بينها إعلان دبي الذي دعا إلى الشروع في برنامج عالمي للبحوث والتنمية في مجال الكينوا يمتد على مدى العديد من السنوات.
غير أن إكبا منذ العام ۲۰۰۷ يدير برنامجه العالمي لتقييم الأصول الوراثية للكينوا واختيار السلالات التي تلائم محتلف المناطق الجيوغرافية والظروف البيئية. وفي البنك الوراثي للمركز مايقارب ۱۰۰۰ سلالة من الكينوا، كما يمتلك أربع سلالات جاهزة للاعتماد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا وآسيا الوسطى.
ويجري البرنامج على قدم وساق في كل من مصر، والهند، والأردن، وقيرغيستان، والمغرب، وعمان، وباكستان، واسبانيا، وطاجيكستان، والإمارات العربية المتحدة، وأوزبكستان، واليمن. فعلى سبيل المثال، أظهرب تجارب على مدى عدة سنوات بأن سلالات إكبا تتنج وسطياً غلة تصل إلى ۵.٤۱ طن من البذور لكل هكتار في ظل الظروف شديدة الملوحة والظروف الرملية والقاحلة. في دولة الإمارات العربية المتحدة. وفي آسيا الوسطى، أفادت التقارير بأن هذه السلالات تغل ما يعادل ۵.۵۷ طن من البذور لكل هكتار. كما يعمل إكبا مع المزارعين والشركات الخاصة وكذلك المؤسسات البحثية للتوسع في اختبار الكينوا وزراعتها للحصول على البذور.
ويشيد السيد أزامات كاستف، أحد المزارعين من منطقة إيسيك-كول في قيرغيستان، بتجربته في زراعة سلالات الكينوا المقدمة من إكبا قائلاً: "لقد شعرت بالرضى لدى زراعة سلالات الكينوا كما أنوي التوسع في زراعتها في أراض أوسع خلال السنوات القادمة. فالكينوا باتت جزءاً أساسياً في طعامنا، نعد منها الحلويات، ونستخدم بذورها في تحضير السلطات والمشروبات كما نقدم المثل لجيراننا من المزارعين. كما عقدت اتفاقية مع المطاعم المحلية لتزويدها ببذور الكينوا. أعتقد أن الكينوا تمتلك إمكانية مرتفعة كمصدر للدخل للمزارعين فضلاً عن خيارات جيدة في السوق."
وفي إسبانيا، تعاون المركز مع معهد أغرياريو دي كاستيا لي ليون،.وتم تقديم سلالات المركز لاستخدامها في التجارب ضمن الظروف المحلية. وفي هذا الإطار، حصل الخبراء على نتائج جيدة فيما يتعلق بالنمو ونضج الحبوب.
ويتحدث الدكتور نيفيس أباريشيو، باحث في الحبوب لدى معهد أغرياريو دي كاستيا لي ليون قائلاً: "حصلنا على خمس سلالات للكينوا من إكبا، يظهر اثنان منهم (إكبا Q3 و Q5) أداء جيداً في محطة التجارب في معهدنا. ونأمل بالحصول على غلة جيدة من هذه السلالات وعلى وجه الخصوص السلالة Q5. وسنباشر في العام المقبل زراعة الكينوا في مناطق أخرى في كاستيا لي ليون بهدف تحديد أكثر السلالات تأقلماً مع ظروفنا ومن ثم التوسع في زراعتها مع المزارعين."
ويعاني مزارعو المناطق الجنوبية في المغرب من تأثير الملوحة على الزراعة. وكنتيجة لذلك، تعاون إكبا مع باحثين محليين لدراسة إمكانية زراعة الكينوا ضمن هذه الظروف ووجدوا أنه يمكن للكينوا أن تعطي غلة تصل إلى ۳.۸ طن لكل هكتار مع استخدام مياه تبلغ ملوحتها ۱۲ ديسيسيمنز/م.
وأظهرت تجارب مشابهة أجرتها شركة بذور محلية في جنوب الهند نتائج إيجابية أيضاً. وأما في باكستان، تقوم شركة Kinwa Food بتسويق زراعة الكينوا بين المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة. حيث تقوم الشركة بتوزيع سلالات الكينوا المقدمة من إكبا إلى جانب مشاركة الخبرة الفنية فضلا عن تقديم خدمات التوجيه والدعم. وهذا الجهد يؤتي ثماره حيث ترد أصداء جيدة من أصحاب الحيازات الصغيرة المحليين فيما بتعلق بوفرة الغلال.
كما تقوم مؤسسات دولية أخرى بتنفيذ مبادرات لإدخال الكينوا في الزراعة. وكمثال على ذلك، عملت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة مع مراكز بحوث دولية وجامعات وتعاونيات، ومنظمات المجتمع المدني والشركات الزراعية وشركات البذورفي كل من الجزائر، ومصر، والعراق، وايران، ولبنان، وموريتانيا، والسودان، واليمن على دراسة واختبار وتقييم خصائص الأصول الوراثية للكينوا واختيار الأنواع الأكثر ملائمة للظروف المحلية.
كل ذلك يعتبر جيداً ومبشراً، لكن مايزال هناك مشوار طويل لقطعه قبل أن تغدو الكينوا ركناً أساسياً في قائمة الوجبات الغذائية المحلية. ومازال الإنتاج المحدود يركز على السوق العالمي، إضافة إلى مشاكل أخرى. كما أن الاعتماد بطىء نظراً لعدم توافر التمويل اللازم لتشجيع تبادل المعرفة والتقنيات. أضف إلى ذلك، رغم توق المزارعين لزراعة الكينوا إلا أن غياب الجهات الفاعلة الأخرى في سلسلة الإنتاج يحتم على المزارعين تولي عمليات مابعد الزراعة وحملات التسويق. هذه المشاكل وغيرها تبطىء من سير عجلة التقدم.
وتشير الأبحاث التي أجريت حتى اليوم إلى إمكانية اعتبار الكينوا خياراً مجدياً لمواجهة التهديدات المتعلقة بالملوحة والحرارة والجفاف، ناهيك عن دوره الأبرز في مواجهة التغير المناخي. كما يمكن أن ينطوي الكينوا على امكانيات مرتفعة للاسهام في أهداف التنمية المستدامة أيضاً. إلا أن تحقيق ذلك يتطلب جهوداُ أكثر تنسيقاً وتضافراً من قبل المنظمات الدولية للبحوث والتنمية وكذلك المنظمات الدولية المانحة. وحتى يتم ذلك، سيبقى الكينوا الخيار المفضل على نطاق واسع لدى عشاق الطعام الصحي.