تشكل الزراعة محرّك النمو لدى المجتمعات الريفية، لاسيما في العالم النامي. كما أثبتت أنها أداة حيوية تساعد المرأة بصفة خاصة على التملص من براثن الفقر. فالمرأة في البلدان النامية تعتمد بدرجة كبيرة على الدخل التي تكسبه من الأنشطة المرتبطة بالزراعة لتوفير قوت أسرتها، ناهيك عن أن هذا الدخل يمثل مصدراً يرفع من مستوى استقلاليتها أيضاً. أما في أقل البلدان تطوراً، ترى 79 في المائة من النساء الناشطات اقتصادياً أن الزراعة تشكل مصدراً رئيساً لدخلهن وأن هذا القطاع يمثل المصدر الوحيد الأكثر أهمية لتوظيف النساء في كلّ من أفريقيا وجنوب آسيا.
وإلى جانب ما توفره الزراعة للنساء من دخل، تشكل مكوناً مهماً للأمن الغذائي الريفي. فبينما تنخرط النساء في أعمال مأجورة تصل بحسب التقديرات إلى 43 في المائة من القوى العاملة الزراعية في بعض البلدان، نجدهن يقمن بكثير من المهام غير المأجورة. إذ تنطوي مسؤولياتهن على طيف واسع من المهام المرتبطة بالأسر والمزرعة بما في ذلك إنتاج المحاصيل وإعداد الطعام والاهتمام بالحيوانات، ناهيك عن جمع الماء ورعاية الأولاد وإدارة المنزل، حيث تمنع هذه الواجبات النساء من تبني التقنيات الزراعية الجديدة بشكل كامل والتي قد تتطلب الكثير من الوقت والجهد الجبار. كما قد تشارك النساء أيضاً في أعمال موسمية أو في دوام جزئي غير مأجور، فضلاً عن تقاضيهن أجراً أقل مما يتقاضاه نظرائهن من الرجال.
وسواء أكان عمل المرأة مأجوراً أم غير مأجور، يبقى جوهرياً في مجتمعاتها. غير أنها تواجه معوقات تقف حجر عثرة أمام وصولها إلى سبل التنمية الزراعية من قبيل التدريب والمدخلات والأراضي. فهذه الحواجز لا تتسبب في منع المرأة من إظهار كامل قدراتها فحسب، بل تخلق تكاليف إضافية على مجتمعاتها. فهذه منظمة الأغذية والزراعة ترى بحسب التقديرات أنه في حال تمكنت المرأة من الوصول إلى الموارد بنفس مستوى الرجل، فإن ذلك سينعكس على الغلال الزراعية التي ستشهد زيادة تتراوح بين 20-30 في المائة، مع احتمال انخفاض مستوى انعدام الأمن الغذائي لدى نحو 100-150 مليون شخص في أرجاء المعمورة.
ويمكن لإقحام المرأة بنسبة أكبر في القطاع الزراعي، سواء على مستوى الإنتاج أو صناعة القرار، أن يحدّ من انعدام الأمن الغذائي ويسهم في مصادر المعيشة الريفية، ناهيك عن دفع هذه الخطوة لعجلة التنمية الاقتصادية. ويقصد بإقحام المرأة هنا إيجاد فرص عمل للنساء الريفيات وتشجيع السياسات التي تأخذ بعين الاعتبار احتياجات المرأة وتوفير الأعمال والتعليم القانوني لها.
لقد زاد المركز الدولي للزراعة الملحية (إكبا) مؤخراً مساعيه لتمكين المرأة لاسيما تلك المشاركة في الزراعة والعلوم، وأقام شراكات مع منظمات وطنية وإقليمية ودولية لمواجهة التحديات التي تعترض المرأة.
فعلى سبيل المثال، تسلط مبادرة مشتركة لعام 2015 أبرمت في أوزبكستان بين إكبا والمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا) الضوء على فتح التعليم لأبواب الفرص أمام المرأة.
تشكل الزراعة في أوزبكستان نسبة تزيد بقليل عن 18 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للبلد، وهي مصدر مهم للدخل لدى كثير من السكان الريفيين في البلد. غير أن المجتمعات الريفية تواجه عدداً من التحديات التي تعيق مصادر المعيشة القائمة على الزراعة من قبيل تدهور الأراضي، بما في ذلك تملح وتعدّن التربة، لاسيما في المناطق المجاورة لبحر أرال. أما محدودية مساحة الأراضي الصالحة للزراعة - إلى جانب تدهور الأراضي - فتعني مشاكل يواجهها المزارعون في العادة على صعيد زراعة محاصيل تقليدية، بما في ذلك المصادر العلفية لحيواناتهم. أما المسعى البحثي المشترك بين إكبا وإيكاردا فيبحث عن سبل إدارة الأراضي ذات النوعية المتدنية والإفادة من امكانية المحاصيل غير التقليدية كأعلاف حيوانية.
وجرى اقتسام النتائج المتمخضة عن هذه البحوث من خلال سلسلة من الحلقات الدراسية التدريبية، ما ساعد على تشكيل ائتلاف تعليم النساء الريفيات، الذي يعد الأول من نوعه من حيث العمل مع النساء لتنويع مصادر الدخل لديهن، والمؤلف من 45 امرأة بقيادة مُزارعة محلية. وتظهر هذه الفعاليات ما يوفره التعليم والتدريب من تحفيز للتعاون والقيادة النسائية.
ويسعى مشروع آخر يقوده إكبا ينظر في مكافحة ملوحة التربة في إثيوبيا وجنوب السودان إلى تحقيق تأثير مماثل على مستوى الفرص ومصادر المعيشة لدى المرأة الريفية. فقد جاء عن الدكتور شعيب اسماعيل، مدير شعبة البحوث والابتكار لدى إكبا بخصوص المشروع: "نخطط إلى إقامة روابط بين المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة والمنتجين الريفيين وشتى منظمات البحوث والإرشاد الزراعي" واستطرد يشرح أن الاستراتيجيات التي حددها المشروع من شأنها زيادة دخل المزارعين وتحسين مصادر المعيشة لدى المجتمعات الريفية الفقيرة، لاسيما لدى النساء.
إلا أن الاقتصار على العمل مع النساء المزارعات لا يكفي. إذ يتزايد يوم تلو الآخر إدراك الحاجة إلى العمل مع العالمات لا لخدمة المهام البحثية فحسب، بل لصناعة القرار والقيادة أيضاً. وهنا تؤكد الأستاذة الدكتورة لوندا شيبينغر، مؤرخة علوم لدى جامعة ستانفورد ومديرة مشروع الابتكارات المرتبطة بالجنسانية، على الحاجة إلى أخذ موضوع الجنسانية بعين الاعتبار عند إجراء البحوث. فالنهج القائم على الجنسانية يشتمل على زيادة عدد النساء اللواتي يشاركن في الاكتشافات العلمية، وإحراز تغييرات هيكلية لدعم العدالة بين الجنسين على كافة مستويات المؤسسات العلمية، ناهيك عن إدماج البعد الجنساني في البحوث. بعدئذ، وعندما تشارك النساء في العملية العلمية، سيكون احتمال تناولهن للقضايا التي تواجه المرأة أكبر.
وعلى نحو مماثل، شدّدت الدكتورة وانجيرو كاماو روتنبيرغ، في معرض كلمتها خلال حوار بورلوغ لعام 2015، على الحاجة إلى مزيد من القياديات داخل مؤسسات البحوث الزراعية، قائلة: "علينا تحويل المشهد المتعلق بالبحوث والتنمية"، وأضافت: "من الأهمية بمكان أن يشترك الرجال والنساء جنباً إلى جنب في إعداد جدول الأعمال البحثي." أما الحل القاضي بزيادة عدد النساء اللواتي يضطلع بأدوار قيادية فهو ليس بالسهولة التي تقتصر على توظيف مزيد من العالمات. فالعالمات المبتدئات بحاجة إلى مُوجّهات تتمتعن بالكفاءة، ناهيك عن فرصٍ لبناء شبكات التواصل بينهن والارتقاء بمهاراتهن.
تسهم المرأة في دور يتزايد أهمية داخل المجتمع العلمي، إذ شهدت نسبة النساء العاملات في أنشطة مرتبطة بالزراعة ضمن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا زيادة من 30 في المائة إلى قرابة 45 في المائة منذ ثمانينات القرن الفائت. وجاء عن اليونيسكو أن عدد الطالبات اللواتي يجرين دراسات في مجال العلوم والتقانات والابتكار يتجه نحو الزيادة. بيد أن تمثيل المرأة في المنطقة، ورغم كل هذه التطورات، لا يزال دون المستوى المطلوب في مجال الإدارة وأدوار أخرى رفيعة المستوى.
ولمعالجة هذه القضية، أطلق إكبا في أغسطس/آب 2016 مرحلة تصميم برنامج "تمكين" الخاص بقيادة العالمات العربيات الشابات، حيث سيتم في هذه المرحلة إرساء أسس برنامج "تمكين"، الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وذلك بتمويل من البنك الإسلامي للتنمية ومؤسسة بيل ومليندا غيتس. ويهدف هذا البرنامج إلى تحسين فرص القيادة، وإقامة علاقات بين الزميلات والموجّهات، والإسهام في الهدف طويل الأجل المتمثل في زيادة عدد البحوث التي تقودها النساء بهدف تحسين مستوى الأمن الغذائي.
أضف إلى ذلك، تم إطلاق برنامج مماثل بعنوان "الشابات العربيات المختصات في العلوم الزراعية"، وهو مشروع مشترك بين إكبا والصندوق المركزي العالمي لتنمية البحوث (CRDF Global)، وهو برنامج يمثل منافسة تسعى إلى إشراك النساء في بحوث علمية طويلة الأجل من خلال تعزيز التعاون بين العالمات العربيات والأمريكيات. ولا يقتصر البرنامجان آنفا الذكر على السعي إلى دعم الإسهامات التي تقودها النساء فقط في القطاع الزراعي، بل يهدفان إلى توفير أدوات وشبكات لهن بغرض إدارة دفة الحوار المتعلق بالتنمية.
وعلى مستوى المزرعة والمختبر، تمثل الإسهامات الزراعية التي تقودها النساء مكونات أساسية للأمن الغذائي العالمي ومصادر المعيشة الريفية. فالبرامج من قبيل تلك التي يقودها إكبا وشركاؤه، تشكل سبلاً مهمة للحدّ من الأسباب الهيكلية وراء انعدام العدالة بين الجنسين وتشجيع المرأة على الاضطلاع بدور فعال في التطورات العلمية المستقبلية. تقول السيدة ميشيل باشيلي، وكيلة أمين عام الأمم المتحدة سابقاً ومديرة تنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة: "إن تمكين المرأة وتمكنها من المطالبة بحقوقها والوصول إلى الأراضي والقيادة والفرص والخيارات سيحسن مستوى الأمن الغذائي وسيرفع سقف التوقعات لدى الجيل الراهن والأجيال المستقبلية."