يعيش العالم اليوم في حالة من الجمود. فتفشي كوفيد-19 على مستوى العالم، ذلك المرض الناجم عن فيروس كورونا المستجد، قد أصاب الكثير من الصناعات بالاضطراب. فقد دخلت القطاعات الاقتصادية برمتها في جمود بسبب ملازمة الشعوب لمنازلهم حول العالم، وترافق ذلك مع زعزعة الأسواق وسلاسل التوريد الدولية.
لذلك يحذر خبراء الاقتصاد من ركود عالمي إذا لم تعمل البلدان الرائدة يداً بيد للتخفيف من تأثير هذه الصدمة. فوفقاً لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، قد تبلغ الخسائر التي ستصيب الاقتصاد العالمي نحو 1 تريليون دولار في العام 2020.
إلا أن التراجع الاقتصادي قد لا يكون السحابة الداكنة الوحيدة التي تلوح في الأفق، فشبح العجز الغذائي وارتفاع الأسعار هو ما يحذر منه المحللون أيضاً.
وبينما تبذل الحكومات خطى حثيثة لمحاربة هذا المرض، قد يصاب قطاع الزراعة وإنتاج الأغذية بضرر أيضاً. إذ من شأن التدابير الوقائية المتخذة أن تسفر عن نقص العمالة وتأخير توريد المستلزمات للمزارعين، الأمر الذي قد يؤثر بشكل خطير على الإنتاج الزراعي. فالمنتجات الطازجة وغيرها من السلع القابلة للتلف قد تفسد قبل وصولها إلى المستهلك نتيجة بطء تسليمها بفعل قيود الحجر.
ولعل المخاوف المرتبطة بارتفاع الطلب وتراجع الإنتاج تشكل عاملاً يحث البلدان على خفض صادراتها الغذائية أو منعها كلياً خشية نفاذ ما لديها من احتياطي مخصص لشعوبها، لهذا فرضت بعض البلدان قيوداً مؤقتة على التجارة. وربما من المنطقي تعليق حركة تنقل الأشخاص بين البلدان، إلا أنه لا حاجة لكبح تدفق الأغذية على امتداد سلاسل التوريد العالمية.
وقد يكفي اتخاذ بلد أو بلدين من البلدان الرئيسية المصدرة للأغذية تغييرات جوهرية لإحداث أزمة تطال تأثيراتها الجميع. وفي أسوأ الحالات يخاطر العالم بتكرار أزمة الغذاء العالمية لعامي 2007-2008.
يبقى هذا الاحتمال غير محبذ لما يحمله من خطر جسيم يطال الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع. وفي حين تمتلك الأمم الغنية ما يكفيها من الموارد للتأقلم مع الاضطرابات التي يشهدها الإمداد الغذائي وارتفاع الأسعار، إلا أن البلدان ذات الدخل المنخفض غير مهيأة لمواجهة أي أزمات جسيمة. وتواجه الدول الافريقية التي تعتمد بالكامل على استيراد المواد الغذائية التهديد الأكبر حيث من الممكن أن تدفع الأزمة بالملايين من سكانها تحت خط الفقر وسوء التغذية.
قد يسفر عن استمرار اضطراب التوريد لفترة طويلة تأثيرات واسعة النطاق تصيب الأمن الغذائي تقريباً في كافة البلدان التي تعتمد بدرجة كبيرة على الواردات الغذائية. ولعل الإصلاحات قصيرة الأجل كتقديم المبالغ النقدية والإعانات الغذائية تعتبر أساسية لاسيما للفقراء أو العاطلين عن العمل أو المرضى، إلا أن حالة الضبابية الراهنة تبرز مدى أهمية الاستراتيجيات طويلة الأجل الخاصة بالأمن الغذائي.
قدمت الإمارات العربية المتحدة، كدولة تعتمد على الواردات الغذائية، مثالاً يحتذى به بتبنيها الاستراتيجية الشاملة للأمن الغذائي لمواجهة الأزمات المحتملة. فالدولة تعتمد في غذائها على مصادر خارجية بنسبة 90 في المائة.
وضعت حكومة دولة الإمارات دائماً مسألة الأمن الغذائي في قمة جدول أعمالها. فخلال السنوات الأخيرة بذلت الدولة جهود حثيثة لتعزيز قدرتها على التأقلم مع اضطرابات التوريد، لاسيما عقب الدروس المستقاة من أزمة الغذاء العالمية التي شهدتها الفترة 2007-2008.
كما تنفذ دولة الإمارات عدداً من الإجراءات والسياسات والاستراتيجيات لضمان استمرارية توفير الإمدادات الغذائية وتدفقها من الخارج، فضلاً عن التوسع في الإنتاج الغذائي محلياً.
وعلى الصعيد الدولي، تركز الحكومة بصفة خاصة على دعم تجارة الأغذية، وتنويع مصادر الأغذية والاستثمار في القطاع الزراعي. ونتيجة لذلك تبوأت دولة الإمارات مركزاً لوجستياً وتجارياً في ميدان الأغذية، فنحو 70 في المائة من الواردات الغذائية إلى الدولة يعاد تصديرها اليوم إلى بلدان أخرى.
أما على الصعيد الداخلي، تسعى الحكومة إلى الحفاظ على مخزون كاف من الأغذية الأساسية وغيرها من الأغذية الرئيسية، وإجراء تدخلات في الأسواق لضمان توافر الأغذية فيها بأسعار ميسورة، ناهيك عن تقديم مساعدات مالية وفنية للمزارعين ولمؤسسات الأعمال والأبحاث الزراعية دعماً للإنتاج المحلي من خلال البحوث والتنمية الزراعية.
وفي العام 2017، عينت الحكومة معالي مريم بنت محمد المهيري، وزيرة دولة للأمن الغذائي بهدف تنسيق جميع المبادرات. وبعد عام أطلقت دولة الإمارات الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي 2051 تبنت رؤية تغدو فيها الإمارات مركزا رائدا للأمن الغذائي على مستوى العالم قائما على الابتكار.
تُحدد هذه الاستراتيجية مكونات السلة الغذائية الوطنية، كما تشتمل على 38 مبادرة قصيرة وطويلة الأجل. وتنص - من جملة أمور أخرى - على خمسة أهداف عامة، مع التركيز على تسهيل تجارة الأغذية العالمية، وتنويع مصادر الواردات الغذائية من خلال الشراكات، وتحسين الإنتاج المستدام للأغذية محلياً.
وبعد عامين، آتت تلك الاستراتيجية ثمارها. فقد ارتقت الدولة من المرتبة 33 في العام 2017 إلى المرتبة 21 في العام 2019 على مؤشر الأمن الغذائي العالمي الذي جمعته وحدة البحوث الاقتصادية التابعة لمجلة "إكونوميست".
وبحلول العام 2021، ستساعد هذه الاستراتيجية على توفير ما يزيد على 16,000 فرصة عمل، وزيادة الإنتاج الزراعي بأكثر من 100,000 طن، فضلاً عن تحقيق عائدات اقتصادية تصل إلى نحو 22 مليار درهم إماراتي (ما يعادل زهاء 6 مليارات دولار أمريكي).
إلى جانب ذلك، شكلت الحكومة مؤخراً مجلس الإمارات للأمن الغذائي لتنسيق وقيادة عمليات تنفيذ الاستراتيجية بالاشتراك مع بعض الهيئات الاتحادية والمحلية. كما أوكلت للمجلس أيضاً مهمة تأسيس نظام وطني لحوكمة الأمن الغذائي.
وفي أواخر مارس/آذار 2020، أصدرت الحكومة كذلك قانونا جديدا ينظم الاحتياطي الاستراتيجي للدولة من الأغذية، يمنح الموردين وبائعي التجزئة المسجلين حوافز عديدة ضماناً لتوفير إمدادات غذائية كافية دون انقطاع في الدولة إبان الأزمات والطوارئ والكوارث.
يعتبر تخزين الأغذية وتجارتها ضرورياً على المدى القصير، إلا أن التجارب تحتم تطوير الإنتاج الزراعي المحلي وتسخيره كرديف للأمن الغذائي على المدى المتوسط والبعيد. فبالرغم من أن دولة الإمارات العربية المتحدة تعوزها الأراضي الصالحة للزراعة وموارد المياه العذبة، إلا أن لديها من المزارع اليوم ما يزيد عن 40,000 مزرعة.
ونظراً لقلة النباتات التي تنمو في الظروف المحلية وحاجة الزراعة إلى الكثير من الموارد، تركز الدولة على الابتكار، وتولي الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي البحوث والتنمية الزراعية الأولوية القصوى.
كما تطلق الحكومة العديد من البرامج وتقدم الحوافز وتضع السياسات المختلفة لاستقطاب رواد الأعمال والمبتكرين في ميدان التقانات الزراعية، وقد آتت هذه الجهود والمساعي ثمارها، فعلى سبيل المثال، ارتفع عدد مزارع الزراعات المائية من 50 في العام 2009 إلى نحو 1,000 مزرعة في العام 2017. كما تتخذ المزارع العمودية منحى صاعداً هي الأخرى، حيث ظهر الكثير منها في الدولة خلال السنوات الأخيرة، مع توقع ازدياد أعدادها في المستقبل المنظور.
وفي سبتمبر/أيلول 2019، أطلق مكتب الأمن الغذائي تحدي التقانات الغذائية، وهي مسابقة عالمية للحلول المبتكرة والمستدامة المصممة لصالح قطاعي الأغذية والزراعة في دولة الإمارات العربية المتحدة. كما توجد خطط لإعداد نظام بيئي للابتكارات الغذائية شبيه بوادي السيليكون، حيث من المرتقب أن يجمع هذا النظام البيئي، المعروف عامياً باسم "وادي الأغذية"، بين المؤسسات البحثية والجامعات والقطاع الخاص لابتكار سبل جديدة لإنتاج الأغذية وتطوير نظم زراعية جديدة.
وتعود بعض الجهود المبكرة للحكومة إلى أواخر تسعينات القرن الفائت عندما تأسس المركز الدولي للزراعة الملحية (إكبا) في الدولة بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية والعديد من المنظمات الأخرى. فقد بات إكبا مع مرور السنين مرجعا في ميدان الزراعة المستدامة في البيئات الهامشية. كما يتمحور عمل المركز حول إيجاد المحاصيل البديلة والتقانات القادرة على التكيف بشكل أفضل مع الظروف البيئية القاسية، حيث أثبتت الكثير من هذه المحاصيل والتقانات ملاءمتها للظروف المحلية أيضاً. وعلى سبيل المثال، يعمل المركز في الوقت الراهن مع شركات عديدة لإنتاج أغذية مختلفة من محصولي الكينوا والساليكورنيا المزروعين محلياً.
كما حدد الخبراء عدداً من النباتات الملحية – المحبة للملوحة – التي تتسم بإنتاجية أعلى قياساً ببعض الأعشاب التقليدية الأخرى وتساهم في توفير كمية أكبر من المياه.
كذلك يروج إكبا لتقانات الزراعة النموذجية في المناطق الداخلية والساحلية باستخدام المياه شديدة الملوحة الناجمة عن عملية التحلية وكذلك مياه البحر للري. إذ تستخدم في المزارع النموذجية الداخلية المياه المحلاة لري الخضروات، بينما تستخدم المياه شديدة الملوحة الناتجة عن عملية التحلية لتربية الأسماك، في حين تستخدم مخلفات المزارع السمكية لري النباتات الملحية. أما المزارع النموذجية الساحلية فتستخدم مياه البحر لتربية الأسماك، ومخلفات المزارع السمكية لري النباتات الملحية كالساليكورنيا.
على الرغم من المناخ الصحراوي القاسي غير الملائم للزراعة في دولة الإمارات العربية المتحدة، إلا أن الحكومة تحرص على جعل مجال البحوث والتنمية الزراعية راعياً للابتكار. وبالرغم من قلة الأراضي الصالحة للزراعة وموارد المياه في الدولة، تبرهن إنجازات الدولة أن البحث والابتكار والعمل الجاد هو معيار النجاح.